الصفحة الرئيسية  متفرّقات

متفرّقات فهمي هويدي في قراءة للوضع التونسي: بعض عجائب الثورة فى تونس

نشر في  30 ماي 2015  (11:22)

إثر زيارة أداها الى تونس نشر فهمي هويدي وهو كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى مقالا في أعمدة جريدة الشروق المصرية تعرض فيه للوضع التونسي جاء فيه ما يلي..

من عجيب أمرهم فى تونس أنهم لايزالون بعد مضى أربع سنوات على الثورة يتصارعون بالكلمات وليس باللكمات، كما ان شبابها لايزالون يحلمون.

يوم 10 ماي الحالى كانت عناوين صحيفة «الصباح» كالتالى: الاحتقان يبلغ أقصاه فى «الفوار» ــ اعتداءات على الأمنيين والصحفيين ــ انسحاب الأمن كليا من المنطقة وتوجيه تعزيزات عسكرية. جريدة «الشروق» تحدثت فى عناوينها عن «حرق مركز الأمن ومواجهات بالرصاص والغاز» ــ وفى اليوم التالى تحدثت عن «عصيان مدنى والحرس الحدودى والجيش يتدخلون». وفى حين ظلت صحف الصباح تتحدث عن انتفاضة الجنوب ضد الفقر والتهميش، فإن حوارات البرامج التليفزيونية المسائية كانت تحلل ما جرى وتحذر من تداعيات الغضب الشعبى الذى انفجر فى الجنوب المهمل. أما مواقع التواصل الاجتماعى فقد كان صوت الغضب فيها عاليا، لان الجنوبيين هم الذين كانوا يتحدثون بصورة مباشرة. ومن الشعارات التى رفعوها على لافتات ذاعت صورها عبارات من قبيل: شغل ــ حرية ــ كرامة وطنية، ثورتنا ليست إشاعة، التشغيل استحقاق يا عصابة السراق.

كان ذلك أول ما صادفته يوم وصلت إلى العاصمة التونسية. حاولت ان أفهم لانها كانت المرة الأولى التى سمعت فيها اسم مدينة «الفوار»، فقيل لى انها إحدى بلديات ولاية القبلى الجنوبية، وان عدد سكانها يبلغ نحو ٢٠ ألف نسمة، ورغم انها مقر عدد من الشركات البترولية، إلا أن سكانها يشكون من الإهمال ومن تفشى البطالة، ومطالبهم تتركز فى كلمتين هما: الشغل والتنمية.
لم تكن هذه هى الأزمة الوحيدة التى طفت على السطح، لان أزمة أخرى ليست أقل حدة لاحت فى الأفق. إذ إن الإضرابات العمالية أدت إلى وقف إنتاج الفوسفات (يسمونه الفسفاط) الذى يعتبرونه نفط تونس، وقد توسعت فى إنتاجه حتى أصبحت الدولة الخامسة على مستوى العالم المنتجة له. وكان العمال قد قللوا من إنتاجه، وهبطوا به إلى نسبة ٣٠٪ عن معدلاته العادية (٨ ملايين طن سنويا فى المتوسط). ولكنهم فى بداية الشهر الحالى أوقفوا الإنتاج تماما، لأول مرة منذ بدأ إنتاجيته فى ثلاثينيات القرن الماضى.

أضف إلى ما سبق أن السياحة فى تونس التى تمثل موردا أساسيا لها تراجعت بعد الثورة، ثم أصيبت بانتكاسة بعد الهجوم الإرهابى على متحف «باردو» خلال شهر مارس الماضى الذى أسفر عن قتل ٢٢ شخصا بينهم ١٧ سائحا، حينئذ ستدرك لماذا أصبح الاقتصاد يحتل رأس قائمة هموم تونس الجديدة.

إذ تبدو الأزمة عنوانا للشارع العادى، فإن المرء لا يكاد يرفع البصر عنها حتى يكتشف أنها عنوان للشارع السياسى أيضا. وفى حين يعبر الشارع العادى عن أزمته من خلال المظاهرات أو الصدامات التى تحدث بين الحين والآخر، فإن أزمة الشارع السياسى تحولت إلى خبز يومى يطل على الفضاء التونسى صباح مساء. صحيح ان الهاجس الأمنى وعمليات المجموعات الإرهابية تلوح فى الأفق طول الوقت، كما ان الانفلات الحاصل فى الجارة ليبيا تحول إلى عنصر ضاغط على الاقتصاد والأمن لا يمكن تجاهله، خصوصا بعدما وصل عدد الليبيين النازحين إلى مايزيد على مليون ونصف المليون شخص (كل سكان تونس بحدود ١٢ مليون نسمة)، إلا أن هذين الموضوعين (الإرهاب والليبيين النازحين) ليسا من عناوين الصراع، وان ظلا جزءا من الأزمة.

لا يستغرب الصراع السياسى فى بلد محدود السكان دخل كل أهله فى السياسة بعد ثورة ٢٠١١، وبعد ان كان عدد أحزابه سبعة والسلطة فيه محتكرة قبل الثورة، فقد صار عدد الأحزاب ١٢٠، وصارت فرصة تداول السلطة مفتوحة على مصارعها بعد الثورة. وإذ يحسب للثورة انها استنفرت الجميع وأدخلتهم إلى حلبة السياسة، فإن الظاهرة الأهم ان صراع المتنافسين رغم شراسته ظل مدنيا وسلميا طول الوقت. أعنى ان القوى المدنية هى التى تنافست فى ساحاته، فى حين ظلت المؤسسة العسكرية والأمنية بعيدة عنه، فلم تنتصر لطرف ضد آخر، وإنما مضت تؤدى دورها فى الحفاظ على القانون والنظام العام. ولان الأمر كذلك فإن أدوات الصراع ظلت فى الحدود الآمنة. ذلك انها احتفظت بطابع الاشتباك والحوار بالكلمات وليس باللكمات، على حد تعبير الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقى، ورغم ما تخللته من خشونة وتجاذبات وكيد، فلم تسقط فيه نقطة دم ولم تظهر فيه آيات القمع والقهر وذلك انجاز كبير لاريب. وإذا كان قد تم اغتيال اثنين من النشطاء السياسيين إضافة إلى بعض الجنود فى المناطق الحدودية، فقد عد ذلك استثناء ينسب إلى الجماعات الإرهابية الخارجة على القانون وليس إلى القوى السياسية المعترف بشرعيتها.

هذه المعانى التى يختزنها الوافد إلى تونس، ويحسد عليها التوانسة فى سره، تكاد تتوه وتطمس حين يجد المرء نفسه واقفا وسط أنواء الشارع السياسى، ومستدرجا إلى الدخول فى التفاصيل التى تشكل طنينا يصم الآذان وتملأ أصداؤه الأفق.

الصراع الحاصل تدور رحاه فى ثلاثة فضاءات. الأول يتمثل فى الشارع الذى تحركه النقابات بالدرجة الأولى، الثانى مجلس النواب الذى تمثل فيه الأحزاب ويتمتع فيه بحضور قوى حزبا نداء تونس (٨٦ مقعدا) وحركة النهضة (٦٩ مقعدا). الفضاء الثالث الأكبر والأخطر تمثله وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة. لذلك فإنها تعد مرآة عاكسة لموضوعات الصراع ولاطرافه. وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى تحرير.

ذلك ان الباحث حين يتابع أداء الإعلام التونسى لا يستطيع أن يتجاهل انه بات يمثل القوة الضاربة التى يجرى الرهان عليها فى محاولات حسم الصراع. مع ملاحظة ان ذلك الصراع تشارك فيه أطراف عدة، فعناصر النظام القديم لاتزال حاضرة، ممثلة على الأقل فى عناصر حزب التجمع الدستورى الذى جرى حله بحكم القضاء بعد الثورة، باعتباره ينتمى إلى النظام السابق. وهذه العناصر لديها رصيدها من الخبرة والامكانيات المادية. التى جعلته يمثل الطرف الأساسى والفاعل فى حزب نداء تونس الذى جرى تشكيله بقيادة السيد قايد السبسى وفاز بأغلبية الأصوات فى الانتخابات التشريعية التى تمت فى شهر نوفمبر الماضى. والتجمعيون هؤلاء يحملون إرث وتطلعات النظام السابق الذى لايزال يسعى لاسترداد مواقعه. ولان تشكيلة نداء تونس ضمت إلى جانب هؤلاء بعض قوى اليسار إضافة إلى شخصيات وطنية مستقلة. فقد كان لكل طرف هدفه من الانخراط فى التحالف، وان التقى الجميع على عاملين، أولهما مخاصمة حركة النهضة ومحاولة اقصائها بعد فوزها بالأغلبية فى أول انتخابات بعد الثورة (عام ٢٠١١).

الأمر الثانى هو شخصية القايد السبسى الذى طرح صيغة جامعة لإقامة الحزب جذبت تلك العناصر. ولان حركة النهضة احتلت المركز الثانى فى عدد المقاعد التى فازت بها فى الانتخابات الأخيرة (٦٩ مقعدا) فلم يكن بمقدور حزب نداء تونس ان يحكم دون التوصل إلى تفاهم مع قيادة النهضة، وهذا ما حدث. ورغم انه أدى إلى تأييد مجلس النواب للحكومة، إلا أنه أحدث شرخا قويا داخل حزب نداء تونس، خصوصا من جانب الطرف اليسارى الذى كانت مراهنته على إقصاء النهضة من المشهد السياسى برمته، وليس إسقاط حكومته فقط.

إزاء ذلك، فإذا كان الشارع العادى مشغولا بالتنمية وتفاقم البطالة وتردى الخدمات العامة، فإن المعركة الأساسية للشارع السياسى ظلت تدور حول العلاقة مع حركة النهضة، التى تحالف فيها اليسار مع غلاة العلمانيين وأركان النظام السابق. وانحاز ممثلو اليسار إلى فكرة المخاصمة والإقصاء الكلى، فى حين رفض الآخرون مبدأ المشاركة أو التفاهم معها اقتناعا بعدم امكانية أو جدوى الاقصاء.

اللافت للنظر فى هذا الصدد ان الأطراف الخارجية تدخلت فى ذلك الصراع من أبواب مختلفة وهو ما كشفت عنه الممارسة خلال السنتين الأخيرتين بوجه أخص. وفيما فهمت من المطلعين على كواليس اللعبة السياسية فإن دول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة شجعت وأيدت مشاركة حركة النهضة فى السلطة، ولم تحبذ انفرادها بتولى السلطة. وكانت ألمانيا أكثر الدول التى عبرت عن ذلك الاتجاه. أما فرنسا فكانت أقلها حماسا للمشاركة فى السلطة، وبدت أكثر ميلا لاقصائها من المشهد السياسى وان لم تعلن ذلك صراحة.

وفى حين كانت رسائل تلك الدول سياسية بالدرجة الأولى، فإن دولة الإمارات العربية ألقت بثقل مادى وتمويلى كبير لإقصاء النهضة. وبشهادة العاملين فى المجال الإعلامى فإنها ضخَت ملايين الدولارات لشراء تأييد بعض القنوات التليفزيونية والصحف والشخصيات العامة، كما انها قدمت إغراءات مماثلة لرجال الأعمال النافذين الذين أصبحوا يؤدون أدوارا سياسية من خلال ملكية وسائل الإعلام، فضلا عن بعض النوادى الرياضية. ويمتلئ الشارع السياسى بحكايات حول الدور التمويلى للإمارات الذى استهدف إقصاء الإسلام السياسى. هم يستشهدون مثلا بإحدى القنوات كانت على وشك الإفلاس ثم تلقت تمويلا مكنها فجأة من امتلاك ٤ قنوات. يتحدثون أيضا عن عرض تفصيلى قدمه مبعوث خليجى على رئيس إحدى القنوات حدد فيه المبالغ المقترحة مقابل كل انجاز يتحقق، ليس فقط فى الساحة التونسية ولكن أيضا فى تغطية الصراع الحاصل فى ليبيا. وثمة لغط حول مبالغ إماراتية دفعت لتغطية نفقات تعليم بنات أحد قادة اليسار البارزين فى فرنسا، ذلك غير الاغداق متعدد الصور الذى قدم إلى حزب نداء تونس للحفاظ على تماسكه والحيلولة ضد انفراطه.

يعود المرء من تونس وفى جعبته الكثير من التفاصيل المتعلقة بالصراعات الحاصلة هناك، بدءا بتصفية حسابات وأوضاع النظام القديم، وانتهاء بمحاولة القفز فوق الألغام والأشواك التى تعترض طريق إقامة النظام الجديد. ومرورا بمظاهر غضب وقلق شباب الثورة الذين أزعجهم فوز نداء تونس. وأقلقهم تفاهم حركة النهضة مع الرئيس السبسى. وتخوفهم من حملات الإرهابيين التى تفاجئهم من صحارى الشرق وجبال الغرب. كما أنهم يتوجسون من زحف الثورة المضادة التى تحاول حصار ثورتهم وإجهاضها.

لأول وهلة تبدو صورة التجربة التونسية من الخارج أفضل منها فى الداخل. وهو ما لاحظته حين تحدثت إلى بعض الشباب الذين قلت لهم ان الثورة التونسية هى الوحيدة التى نجت من إعصار الثورة المضادة بحيث لم تفقد وهجها وحلمها إلى الان. بعكس تجارب أخرى انطفأ فيها الوهج وتحول الحلم إلى كابوس. لكن استغراقهم فى التفاصيل وتعلقهم بالحلم جعلهم يتعجلون الثمار ولا يرون فى الكوب إلا نصفه الفارغ وفى التجربة إلا ما شابها من قصور وتعثر أو اخفاق.

نصيحتى التى كررتها لهم فى كل مناسبة كانت دعوة ملحة لقراءة خبرة الثورات الشعبية على مر التاريخ، التى مرت جميعها بأكثر وأفدح مما مروا به، وكان الثمن الذى دفعته للانتقال إلى الديمقراطية باهظا وصل إلى الحروب الأهلية فى بعض الأحيان. ورغم تحفظاتى على انتقاداتهم إلا أننى لم أخف اعجابا بهم، على الأقل لأنهم لايزالون يأملون ويحلمون.